آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الحكم العثماني في الجزائر.. حماية أم احتلال؟


مارس العثمانيون ضد الجزائريين منذ اللحظة الأولى لاحتلال بلادهم سياسة التهميش والإقصاء والإفقار أيضا، بعكس ما عاملوا الأقليات التركية والأوروبية واليهود بكرم بالغ، ومنحوهم امتيازات هائلة، واختصوهم بأعلى المناصب والوظائف في السلطة والجيش، والأشد قسوةمن ذلك أن جنود آل عثمان استعبدوا الجزائرات جنسيا وحولوا أبناءهن إلى عبيد، في أول ظاهرة نكاح جهاد في التاريخ.



الإنكشارية تحكم قبضتها

عملت السلطة العثمانية بالجزائر على إبقاء الأهالي بعيدا عن أية مساهمة في أمور الحكم، وحالت دون إمكانية اندماج ممثلي السلطة في الأوساط الشعبية، رغبة في الاستحواذ على المناصب الحكومية، بينما بالغوا في فرض الضرائب والإتاوات على الغالبية الفقيرة من السكان، فزاد حقد الجزائريين تجاه المحتل التركي.

كان أول حاكم للجزائر بعد خير الدين بربروسا هو حسن آغا (1533-1544)، وظل منصب والي الجزائر حكرا على أبناء مؤسسة الإنكشارية العثمانية، والذين اتبعوا سياسة صارمة لتهميش المواطنين وحرمانهم من أية مناصب خاصة بين طبقة العلماء والأعيان.

وحرص آل عثمان على منع الجزائريين من تمثيل الحكومة لدى الدول الأوروبية، كسفراء أو مبعوثين في مهام خاصة، وقصر القيام بهذه الأدوار على العنصر التركي أو من لهم صلة الدم بهم كالكراغلة.

والكراغلة أو الكول أوغلية (الكوارغلية) كلمة تركية أطلقت في العهد العثماني على إيالات العثمانيين في شمال إفريقيا وتعني أبناء الرقيق أو العبيد، واستخدم المصطلح للإشارة إلى الذرية الناتجة عن زيجات الأتراك وأفراد الإنكشارية من النساء الجزائريات والليبيات والتونسيات عن طريق زواج المتعة أو ملك اليمين.



أخذت جماعة الأتراك، خاصة ميليشيات الإنكشارية، ابتداء من أواخر القرن الـ 16 تعزز سلطاتها من خلال محاولة إبعاد الكراغلة، رغم رابطة الدم، إذ كان لدى الأتراك ما يبعث على القلق والخوف من إمكان انقلاب الكراغلة عليهم، وهو ما حدث بالفعل في مدينة بجاية عامي 1639 و1633. بينما عاد الوالي شعبان داي وسمح لأبناء الكراغلة بالتجنيد ضمن جيش الإنكشارية في العام 1693، واستعان بهم في حروبه ضد المغرب وتونس، كما شهد القرن الـ18 اعتماد العثمانيين على الكراغلة في المناصب القيادية بالجزائر وفي مقدمتها منصب الباي.


تخريب الجزائر :

العثمانيون خربوا الجزائر، مزقوها إلى إقطاعيات متناحرة، وسخروا شعبها للخدمة فيها، فانتشر الفقر وسادت الأمراض والمجاعات ليتراجع تعداد السكان إلى حدود مرعبة هددت بفناء الأرض ومن عليها، ليسلم السلطان مفاتيحها باليد إلى الاحتلال الفرنسي، ويتواصل مخطط الإبادة بتقديم مليون شهيد لانتزاع الاستقلال.

تفككت الجزائر تحت الاحتلال العثماني، وباتت منذ العام 1827 أرضا هزيلة، لا حقل فيها ولا جيش، بفضل هجمات الوالي وعصاباته التي أطلقها على الفلاحين لجباية المال واقتلاع الزرع من الجذور، وحين هبط الفرنسيون سواحلها عام 1830 تمت عملية الاستلام والتسليم دون أن تطلق بنادق الاحتلالين رصاصة واحدة.

ولاء الجيش العثماني في الجزائر كان للمال ولمن يسدد رواتب العسكر، سواء كان أجنبيا أو تركيا، فانتشرت الفتن بين الجنود واضطرب الأمن وباتت مشاهد السرقة والنهب يومية في البلاد، رصد المؤرخون أحوال الجزائر قبيل الاحتلال الفرنسي، وتذكر الدراسات التاريخية أن عهد العثمانيين تميز بكثرة الثورات بسبب التهميش وقسوة الضرائب.


أغلب ولاة الجزائر انتهت فتراتهم بالاغتيال أو الإعدام على يد الثوار، فيما تدهورت الحالة الصحية والمعيشية للسكان بشكل ملحوظ، فانعكست على تراجع القوة البشرية بسبب انتشار الأوبئة والأمراض، فضلا عن الأوضاع الاجتماعية المتأزمة بسبب الاضطرابات بين الإنكشارية والیهود وكذلك الثورات الداخلیة.

حرب تجويع لحساب اليهود

منح العثمانيون امتيازات وتسهيلات تجارية للأجانب من أوروبيين ويهود، وتمتعت الشركات الفرنسية بالكثير من الامتيازات طوال الاحتلال العثماني للجزائر، أهمها استغلال واحتكار المراكز التجارية، وأبرز تلك الشركات هي سانسون نابليون ودونيس ديسو والملكية الإفريقية، وبموجب معاهدات تجارية أبرمتها إسطنبول التزمت تلك الشركات بدفع التزام مالي سنوي يدعى "اللزمة" يخصص لتمويل رواتب الإنكشارية، مقابل منع الفلاحين ومربي المواشي من بيع منتجاتهم لغير تلك الشركات بأثمان بخسة.



الأخطر من ذلك هو دخول الطبقة العثمانية الحاكمة في مصالح مشتركة مع اليهود، إما كوسطاء موكلين أو كشركاء، فأصبحت الشركة اليهودية بفضل استثماراتها الضخمة بمثابة البنك الذي يتولى عمليات تمويل المشروعات والإقراض لكل الأنشطة الاقتصادية في البلاد، وأوكل الدايات (الولاة) لليهود مهمة الإشراف على تنظيم المدفوعات الخارجية وتسييرها، ما دفع بالديبلوماسي الفرنسي جون بوسان إلى التساؤل استنكارا :"هل من الممكن أن توضع كل تجارة حوض البحر المتوسط بين أيدي يهوديين من الجزائر؟".


زاد تأثير اليهود في عهد الداي حسن (1791-1798) وخليفته الداي مصطفى (1798-1805)، حين أصبح اثنان من كبار أثرياء اليهود هما يوسف بكري ونفتال بوشناق أصحاب الحق في التصرف في الشؤون الداخلية والخارجية بكل حرية، وفي عهد الداي مصطفى أصبح بوشناق الحاكم الفعلي للجزائر، حيث كان يعين من يشاء في الوظائف الحكومية ويحدد قيمة الضرائب وأسعار السلع، وبسبب استقباله مبعوث السلطان شخصيا في عام 1804 أطلق عليه القنصل الإسباني لقب "نائب ملك الجزائر"، ويقول المؤرخ جابريل اسكير :"كان بوشناق وراء ارتقاء مصطفى من كناس إلى خزنانجي ثم إلى رتبة داي الجزائر".

استنزاف خيرات الجزائر

ساعدت تلك الممارسات على استنزاف خيرات الجزائر وحرمان الجزائريين منها، كما تمتعت شركة بكري- بوشناق بنفس الامتيازات من الدايات خلال المرحلة التي تعذر فيها استغلال الفرنسيين لمراكزهم التجارية إبان فترة الثورة وحروب نابليون، إذ جرى حرمان مناطق شرق الجزائر من التجارة البحرية عبر الموانئ التابعة لهم.

وقد رصد القنصل الفرنسي دومينيك مولتيدو في عام 1798 السيطرة اليهودية على الاقتصاد الجزائري، وخاصة نشاط السفن التجارية لبكري وبوشناق التي احتكرت حركة الاستيراد والتصدير بين الجزائر وأوروبا.

وأمام هذا الوضع لجأ الدايات إلى التعامل مع اليهود الذين أصبحوا يشرفون على الأمور المالية، وسرعان ما تحولوا إلى وسطاء سياسيين ثم مستشارين ووزراء، ليسوموا سكان الريف والمدن سوء العذاب بالضرائب الباهظة.

زاد التضييق على التجار الجزائريين المنافسة الكبيرة التي كانوا يلقونها من أفراد طائفة الكراغلة، الذين ظهر من بينهم من تمتع بامتيازات خاصة، ويذكر حمدان خوجة الكرغلي أحد وجهاء تلك الطائفة فى كتابه "المرآة" عن نفسه أنه "امتلك مزرعة في منطقة المتيجة تقدر بآلاف الأفدنة ضمت 10 آلاف رأس غنم و800 رأس بقر و60 جملا"، وبالإضافة إلى ذلك كان الرجل تاجرا كبيرا في الجزائر برأس مال بلغ 300 ألف فرنك.

ثورات ضد العثمانيين في الجزائر

فجرت سياسة التهميش غضب الشعب الجزائري، وتجلى هذا الغضب في عديد الثورات مثل ثورات مناطق القبائل وثورات المرابطين والزوايا وثورات الكراغلة، كما نشبت ثورات بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة.

كان القتل والاغتيال الوسيلة الوحيدة التي تستعملها القوى المعارضة لتصفية حساباتها، بعد أن عاش النظام التركي في الجزائر منعزلا ومتقوقعا على نفسه، بعيدا كل البعد عن هموم الناس ومشاكلهم. حتى كان سقوط الجزائر في عام 1830 بيد استعمار جديد، بسبب تفكك الجبهة الداخلية، وفق ما ذكره المؤرخ التونسي ابن أبي الضياف عند تحليله لأوضاع الجزائر عشية الاحتلال الفرنسي قائلا :"إن أهل الجزائر وأعرابها وهم السواد الأعظم سئموا سطوة جند الأتراك وبلغ السيل الزبى، وزهدهم ذلك في الوطن.. والمظالم الفظيعة ربما تفضي إلى مخالفة الشريعة".

سقوط الجزائر في يد فرنسا بعد تواطؤ تركي

سقوط الجزائر السريع كان متوقعا بسبب انفراد الداي حسين بالسلطة وانعزاله عن الناس واعتماده على فئة قليلة من الجنود والأقارب وعدم اهتمامه بتكوين جيش منظم وتفضيله لليهود باحتكار تجارة الحبوب مع الخارج، أما عن أحوال الحكام الترك فكان منهم الباي حسان الذي ترأس بايلك الغرب، وكان شيخا كبيرا لم يطمح إلا للسكينة ولم يكن مؤهلا لمواجهة الفرنسيين.

علم الداي بانطلاق الحملة الفرنسية قبلها بـ 6 أشهر، وكان يعلم مكان إنزال القوات في سيدي فرج، ورغم ذلك لم يحصن المدينة، حيث اقتصرت دفاعاتها على 300 فارس فروا حين نزل الفرنسيون إلى البر، ولم يلق الاحتلال الجديد أية مقاومة من الحامية التركية.

حين تأكد الداي من إنزال الجيش الفرنسي في سيدي فرج شعر بالخوف على نفسه وسلطته، فدعا الأعيان إلى اجتماع لمناقشة الأمر، فأشاروا إليه بالمقاومة والاستشهاد، لكنه فضل الاستسلام، وارتكب الداي خطأ فادحا بإعدام قائد جيشه البارع الأغا يحيى، وعين بدلا منه صهره الأغا إبراهيم، عديم الخبرة في القيادة والقتال، ووصفه الشريف الزهار بأنه "مثل الحمار لا يعرف إلا الأكل والنكاح".

فرار الأتراك

مهد تعيين الأغا إبراهيم على رأس الجيش الطريق للاحتلال الفرنسي لاستلام الجزائر، وادعى القائد العثماني امتلاكه 5 آلاف من المغامرين الذين يذهبون ليلا إلى معسكر العدو ويشيعون فيه الفوضى والاضطراب حتى يقتل الفرنسيون بعضهم بعضا، في المقابل رفض القائد حفر الخنادق حول العاصمة، وقال: "إننا نحن الخنادق الحقيقون، وسنكون تعساء إن عجزنا على حماية جيشنا".

هبت قبائل الجزائر للدفاع عن وطنها وانضمت إلى القوات التركية، ووصل عدد الجيش تحت إمرة الداي إلى 80 ألف مقاتل أغلبهم من فرسان القبائل، ولم يكن الترك حريصين على رد الهجوم الفرنسي، فمنعوا السلاح عن القبائل وكذلك المؤن والذخيرة.

اشتبك الأتراك مع الفرنسيين بعد أن تشجعوا بمساندة القبائل، ولكن القائد التركي الأغا إبراهيم فر من المعركة وترك العتاد والمؤن غنيمة للفرنسيين، وكتب الزعيم الوطني الجزائري حمدان خوجة "جاء الأغا إبراهيم ليحارب فرنسا دون جيش منظم ودون ذخيرة ومؤن، حيث كلل بهزيمة شنعاء في موقعة سطوالي وهرب من المعركة تاركا جيشه ومخيمه، واختفى في دار ريفية مع بعض خدمه"، لم يعزل الداي حسين الأغا إبراهيم الجبان، ولكنه أرسل إليه من يسترضيه للعودة فرجع، وحين وقع الصدام مع الفرنسيين في سيدي خالد وقلعة الإمبراطور فر مجددا.

المصادر :

1 - صالح عابد: الجزائر خلال الحكم التركي 1514 - 1830
2 - سهل وليد: حمدان خوجة ونشاطه أواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال الفرنسي
3 - بقبق الزهرة: الأمير عبد القادر في الأسر

عن الكاتب

محمد دوس

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

مكتبة العلوم الانسانية